الفكر
الإسلامي
من الخطإ
أن تُعَدّ
الخلافة
الفاروقية
أفضل من
الخلافة
الصديقية
نظرًا
لكثرة الفتوح
بقلم
: المربي
الكبير الشيخ
الجليل
العلامة أشرف
علي التهانوي
المعروف
بـ "حكيم
الأمة"
المتوفى 1362هـ /
1943م
تعريب
: أبو أسامة
نور
لم تتحقق الفتوح الإسلامية على مستوى كبير على عهد خلافة سيدنا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – بل إن معظم أيام خلافته استغرقها الحفاظُ على المسلمين أنفسهم؛ حيث إن بعض القبائل ارتدت على إثر لحوق النبي – صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى بينما أنكر بعض الناس فرضيّة الزكاة؛ فأيّامُ سيدنا أبي بكر ظلّت مُرَكَّزَة على قمع فتنة الردّة، والحفاظ على إيمان المسلمين وإبقائهم على حالتهم، ولم يتيسّر فتحُ بلاد الأعداء بكثرة. أما أيّام خلافة سيّدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فربما لم يمض يوم منها دون فتح جديد، فكانت الأنباء ترد تترى أن اليوم تم فتح مدينة كذا، وغدًا سيتم غزو بلد كذا؛ حتى شَرَّقَت الحكومة الإسلاميّة وغَرَّبَت.
وبناءً
على ذلك يعتبر
بعضُ السفهاء
الخلافةَ
العمريّةَ
أفضلَ من
الخلافة
الصديقية؛
لكن العقلاء
يعلمون جيّدًا
أنّ الفضل
الأكبر في
جمال منزل ما
إنما يرجع إلى
الذي
تَوَلَّىٰ
وضع تصميمه
أولاً ثم أرسى
أسسَه؛ لأنه
كان قد اضطرّ
إلى أن
يُتْعِب فكره.
إن وضع تصميم
جميل لمنزل
وإرساء أُسسِه
عمل ذو أهميّة
كبيرة، وليس
مثلَه في
الأهميّة
رفعُ الجدران
على الأُسُس؛
لأن القائم به
إنما وَاصَلَ
وضع الآجرّ
على الآجرّ
فما هو الإجهاد
الفكري الذي
تَحَمَّلَه؟.
إن
الذين ينظرون
إلى الظاهر
يُثْنُون على
المعمار
الثاني الذي
مَارَسَ رفعَ
الجدران نظرًا
لإتمامه
بناءَ
المنزل؛ لكن
الخبير
العالم
بحقيقة الأمر
يعلم حقًّا أن
جمال المنزل
لم يأتِ من
فراغ وإنما
أتى من تصميم
المُصَمِّم و
وضع الأُسُس
على طراز
مطلوب.
وكذلك
العارف بما
وراءَ الأكمة
يعلم أنه أين الخلافة
العمرية من
الخلافة
الصديقية؛
لأن سيّدنا
أبابكر
الصديق –
رضي الله عنه –
تَعِب في
إرساء دعائم
الحكومة
الإسلامية وأسس
الخلافة ما لم
يتعبه ولا
بنسبة عشر في
المائة
سيّدنا عمر بن
الخطاب –
رضي الله عنه – إن
ذلك كان من
مأثرة ذلك
الخليفة
البعيد الهمّ
أنّه في عهد
الفتن الذي
كانت فيه
جماعتُه هي
الأخرى تكاد
تُفْلِت من
اليد، كافح
الفتن
كلَّها،
واستأصلها عن
آخرها، وأرسى
دعائمَ
الخلافة
الإسلاميّة
خلال سنتين
ونصف،
وثَبَّتَ
نظام الحكم
على مبادئ
متينة حتى
لايعاني
خليفة بعده
أيَّ مشكلة.
وقد نُفِّذَت
هذه المبادئ
على أرض
الواقع على
عهد خلافة
سيدنا عمر –
رضي الله عنه –
وراج النظام
الصديقي؛
فالفضل أصلاً
إنما يرجع إلى
سيدنا أبي بكر
الصديق –
رضي الله عنه –
وجميعُ ما
تحقق من
الفتوح
أيّامَ سيدنا
عمر –
رضي الله عنه –
يندرج ثوابُه
في صحيفة
أعمال سيدنا
الصديق –
رضي الله عنه –
ورجالُ
السياسة
والمدنيّة
يعلمون جيدًا
أن وضع
القانون
أَصْعَبُ من
تنفيذه؛ فما
يواجهه
وَاضِعُه من
الصعوبات لا يُوَاجِهُ
القائمُ
بتنفيذه عشرَ
مِعْشَاره.
هل
انسدّ بابُ
الاجتهاد
فيما بعد
أربعة قرون؟
ولا
يعني ذلك أن
أيًّا من
العلماء لم
يَحْظَوْا
بعقل قابل
للاجتهاد
فيما بعد
أربعة قرون من
الهجرة؛ حيث
لايوجد على
ذلك دليل، على
أن هذه
المقالة لن
تصحّ على
الإطلاق؛
لأنه يظهر في
كل زمن من
المسائل
الجزئية مالم
يُؤْثَرْ أيُّ
حلّ له عن
الأئمة
المجتهدين،
فالعلماءُ
يُقَدِّمُون
حلولاً لها عن
طريق
اجتهادهم هم،
فلئن كان
الاجتهاد قد
انسدّ بابه،
ولم يَعُدْ
أحد يملك
ملكةَ
الاجتهاد،
فهل تبقى هذه القضايا
المستجدّة لا
تجد حلاًّ لها
في الشريعة
الإسلامية،
أو ينزل
لحلّها نبيٌّ
جديدٌ من
السماء. لا
قدّر الله أن
يكون الأمر
هكذا، وإلاّ
فإن رجال «ق د
ن» - أي
القاديانيين –
يجوز أن
يتسامعوا
بذلك،
ويزيدوا إلى
قائمة دلائل
نبوة مسيحهم
الموعود
دليلاً آخر،
فماذا عسى أن
يكون معنى
الآية:
«الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ
لَكُمْ
دِيْنَكُمْ»
(المائدة/3)
التي تُؤَكِّد
أن الدين قد
تمّ كمالُه.
لئن
أُغْلِقَ باب
الاجتهاد
مُطْلَقًا،
فكيف يجوز
اعتبارُ
الشريعة
الإسلاميّة
كاملةً وقد
توجد هناك
قضايا كثيرة
لا يوجد حلٌّ
لها في كتب
الفقه، ولم يُؤْثَر
عن الأئمة
المجتهدين؟.
حلول
القضايا
المستجدة
قد
وَرَدَ خلال
الأيام
الماضية
استفتاءٌ فقهي:
هل الصلاةُ
تصحّ في
الطائرة أو
لاتصحّ؟ فلئن
سُلِّمَ أن
الاجتهاد عاد
لايجوز فيما
بعد القرون
الأربعة، لما
كان لهذه
القضية حلٌّ في
الشريعة. إن
الطائرة لم
توجد في سالف
الزمان فلم
يعرفها
الفقهاء
السلف، فلم يستنبطوا
حكمًا يتعلّق
بها؛ فنحن –
العلماء
المعاصرين –
نجتهد بدورنا
ونستنبط
أحكامًا
لأمثال هذه القضايا
المستجدة؛
فلا يعني قولُ
الفقهاء –
رحمه الله - : إن
باب الاجتهاد
قد انغلق فيما
بعد أربعة
قرون أن
الاجتهاد قد
انسدّ
كُلِّيًّا؛
بل إنه يعني
أن الاجتهادَ
في الأصول قد
انسدّ بابه،
أما الاجتهاد
في الفروع،
فلا يزال بابه
مفتوحًا،
وسيظلّ
مفتوحًا إلى
يوم القيامة؛
لأنه لئن
أُغْلِقَ
الاجتهادُ في
الفروع
فسيثور شكٌّ
في كون
الشريعة كاملةً،
وإن هذا الشكّ
في غير محلّه
لا محالَة؛ لأنها
–
الشريعة –
لا تشكو أيَّ
نقصان، فكلُّ
ما يستجدّ من
القضايا إلى
يوم القيامة،
سيُوجِدُ
العلماء في زمانهم
حلولاً لها في
ضوء الشريعة؛
لأن القضايا
الجزئية
المستجدة
مهما لم
تُدَوَّن في
كتب الفقه،
فإن الأئمة
المجتهدين قد
دَوَّنوا أصولَها
وقواعدها،
التي يمكن بها
العلم بأحكام
القضايا
المستجدة
ليوم القيامة.
إغلاق
باب الاجتهاد
في الأصول
أمّا
استنباطُ
الأصول من
الكتاب
والسنّة، فإن
هذا الاجتهاد
الخاصّ قد
انغلق بابُه
بعد أربعة
قرون، وذلك
لأن الأئمة
المجتهدين قد
استوعبوا
استنباط ما
كان من أصول
الشريعة ولم يَفُتْهُمْ
أيُّ أصل من
الأصول. ومن
استنبط بعدهم
أصولاً لم تكن
متينةً؛
لأنها ظلّت لا
تسع المسائلَ
في بعض
المواضع، مما
دلّ على أن
العقول عادت
لا تصلح
للاجتهاد في
الأصول. وقد
كان من مزايا
الأئمة
المتجتهدين
وحدهم أنهم
أحسنوا
استنباط الأصول
من الكتاب
والسنة، حيث
لم تَضِقْ في
موضع ما عن
استيعاب
القضايا.
أما
ما قاله
الإمام ولي
الله الدهلوي
(أحمد بن عبد
الرحيم
الفلتي
الدهلوي 1114-1176هـ =
1703-1762م) من أن أصول
صاحب كتاب
«الهداية» في
الفقه (علي بن
أبي بكر
أبوالحسن
برهان الدين
الفرغاني
المرغيناني
من أكابر
فقهاء
الحنفية 530هـ -593هـ
= 1135-1197م)، غير
مُسَلَّمَة،
فلا يعني أن
كتاب «الهداية»
غير لائق
بالثقة، وأن
أصوله دُوِّنَت
فيه خاطئةً؛
بل الإمام
يعني أن بعض
الأصول قد
استنبطها
صاحبُ
«الهداية»
بدوره من الشريعة،
ولم ينقلها عن
السلف.
فالأصول التي
لم ينقلها
بنصّها هي غير
موثوق بها، أمّا
غيرها التي
نقلها عن
السلف فهي
موثوق بها.
فالجدير
بالملاحظة أن
صاحب الهداية
رغم كونه ذا
شخصيةٍ
علميّة
كبيرة،
ويُعْلَم
فضلُه العلميّ
من كتاب
«الهداية»
نفسه، لأنه
أتى فيه بما
لم يأتِ به
غيره؛ حيث إنه
أورد فيه لكل
مسألة من
المسائل
دليلين: نقلي
وعقلي، فما
أَوْسَعَ
نظرَه؛ حيث
يورد حتى
للجزئيّات دليلاً
من الحديث.
ورغم أنه يذكر
الأحاديث
دونما ذكر
أسنادها؛
لكنها إذا جرى
البحث عنها
عثر الباحث
عنها عليها في
كتاب من كتب
الأحاديث: في
مسند البزار
(أحمد بن عمرو
بن عبد الخالق
أبوبكر
البزار
المتوفى 292هـ/905م)
أو مسند عبد
الرزاق (عبد
الرزاق بن
همام بن نافع
الحميري
اليماني
الصنعاني 126-211هـ
= 744-827م) أو شعب
الإيمان
للبيهقي (أحمد
بن الحسين بن
علي، أبوبكر
الشافعي
البيهقي
المنسوب إلى
بَيْهَقْ،
لأنه ولد في
قرية
«خسروجرد» من
قرىٰ
«بَيْهَقْ»
384-458هـ = 994-1066م) أو
مُصَنَّف ابن
أبي شيبة (عبد
الله بن محمد
بن أبي شيبة
العبسي
مولاهم،
الكوفي،
أبوبكر 159-235هـ =
776-849م) وغيره. وقد
يجوز أن لا
يتوصل الباحث
إلى حديث أو حديثين
مما وَرَدَ في
«الهداية» في
ديوان من دواوين
الحديث؛
ولكنه لايجوز
له أن يزعم
أنه لا يوجد
له أثر في كتب
الحديث،
نظرًا لسعة
نظر مؤلف
«الهداية»
العجيبة. وهذا
بالنسبة إلى
سعة النظر.
أما سعةُ الفهم
فلا حَدَّ
لها؛
فاستعراضُ
دلائل
المعارضين
والردُّ
عليها، ثم
تقديمُ
الدلائل
لصالح مذهبه،
لا يشقّ فيه
غبارهَ أحدٌ..
ورغم ذلك ما يستنبطه
بنفسه من
الأصول من
الكتاب
والسنة، حَكَمَ
فيه الإمام
وليّ الله
الدهلوي أنه
غير موثوق به،
لأنّه يشذّ في
مكان ما ويضيق
عن استيعاب
المسائل في كل
موضع.
فالعلماء
المعاصرون
الذين ليسوا
بمكان من سعة
نظر صاحب
«الهداية»
وفهمه، ماذا
عسى أن يستنبطوا
من الأصول من
الكتاب
والسنّة
مباشرة؟
الاجتهاد
في الفروع
باقٍ
وسيستمرّ
أمّا
الاجتهاد في
الفروع فلا
يزال باقيًا
وسيظلّ؛ ولكن
ذلك لا يعني
أننا كذلك
صرنَا مجتهدين
مثل أبي حنيفة
والشافعي –
رحمهما الله
تعالى –
لأن رجال
السياسة
يعلمون جيدًا
أن وضع القانون
أشدّ بدرجات
كثيرة من
تنفيذه؛ فلا
يسعنا شيءٌ
سوى أن
نُطَبِّق
الأصولَ التي
استنبطها
هؤلاء السادة
من الكتاب
والسنة على
الحوادث
المستجدة. إن
الفضل كله
إنما يرجع
إليهم؛ حيث
تأمّلوا في
الكتاب والسنة
واستخرجوا
منهما أصولاً
تفي بالغرض فيما
يتعلق بجميع
ما يستجدّ من
القضايا ليوم القيامة،
فلن يستجد
أيٌّ من
القضايا
لايمكن استخراج
حكم الجواز
وعدم الجواز
في شأنها في
ضوء ما
استنبطوه من
الأصول من
الكتاب
والسنة. ولم
يكتفوا
بالأصول، بل
أوردوا من
القضايا الجزئية
ما قلما يحدث
جزئي
لايكونون قد
بيّنوه صراحة
أو دلالة.
ولئن
وُجِدَتْ
قضية جزئية
تبدو أن هؤلاء
المجتهدين لم
يتعرضوا لها،
فقد يكون
المفتي
المعاصر قاصر
النظر في
شأنها؛ حيث لا
يستوعب
أمكنتها في
كتب الفقه
التي تشتمل
على أصول يجوز
استنباط
الحكم في
شأنها منها؛
ولكن المفتي
لم يتطرق ذهنه
إليها. وإن
افترضنا أنهم
لم يذكروا تلك
القضية
الجزئية، فإن
حلّها لابدّ
أن
يُسْتَخْرَج
من الأصول
التي ذكروها؛
فلا يجوز لأحد
أن يزعم اليوم
أنه يتساوى مع
الأئمة
المجتهدين.
* *
*
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم
ديوبند ،
جمادى الأولى
1436 هـ = فبراير - مارس
2015م ، العدد : 5 ،
السنة : 39